مجتمع

يوميات رجل تعليم – الحلقة 3: البداية في تيزنيت

العربي ازعارة

كنت أعلم يقينًا أن تعييني لن يكون إلا خطوة أخرى في حلقة لا تنتهي من تغطية الخصاص في أطر التدريس بمناطق تسقطها الخرائط الوطنية من أولوياتها. ومع ذلك، اخترت طوعًا أن يكون مصيري مرتبطًا بإقليم تيزنيت، تلك المنطقة التي تربطني بها ذكريات عائلية من جهة والدتي – أطال الله عمرها. كان الاختيار أقل وطأة بالنسبة لي مقارنة بزملاء أمطرتهم التعيينات في أماكن لم يسمعوا عنها من قبل، وكأنها نُكتة جغرافية غير مُضحكة.

الرحلة الأولى: بنجدية إلى المجهول

في يوم قائظ من منتصف شتنبر 1992، من محطة بنجدية بالدار البيضاء، انطلقت رحلتي على متن حافلة الخطوط القديمة. لم تكن الحافلة وسيلة نقل عادية؛ بل كانت أشبه بوعاء يغلي بالأفكار والهواجس، تجمع في داخله رجال ونساء التعليم، يحمل كل منهم أمتعته وأثقاله النفسية نحو مستقبل غامض. الرائحة الثقيلة للمازوت تملأ المكان، وهدير المحرك القديم ينسجم بإيقاع غريب مع دقات قلبي، وكأنهما يتآمران لإشعال القلق داخلي.

كنت أرتب التمثلات في رأسي، أحاول بناء سيناريوهات لعوائق لم أكن أعرفها بعد. أما باقي الركاب، فقد كانوا صامتين، كما لو أن كل منهم يعيد كتابة مصيره في ذهنه دون أن ينبس بكلمة.

تيزنيت: مدينة التراث والاستقبال الأول

مع بزوغ أول خيط شمس في تيزنيت، وأنا أتنفس هواءها التراثي المشبع برائحة التاريخ، كنت غريبًا عن كل شيء إلا عن شعور الغربة ذاته. عند مشور الحسن الأول، وسط مدينة تأبى أن تتحرر من تقاليدها، وجدت نفسي أمام بناية نيابة التعليم، أحمل ورقة تعييني وأبحث عن تفسير لمفردات لم أفهمها: قبيلة، جماعة، دائرة… كان الأمر أشبه بفك شفرة خريطة كنز ضائعة.

عند مدخل النيابة، قابلت رجلاً يبدو من هندامه المرتب كأنه خرج للتو من كتاب تعليمي قديم. سألته بتوجس عن وجهتي، فتناول الورقة ببرود متمرس، وقال بنبرة مصرية لم تخطئها أذني: “فندق المسيرة في المشور… هناك ستجد مدير المجموعة المدرسية.”

لقاء المدير: البداية العملية

توجهت إلى الفندق. عند بهو الطابق الأول، وجدت مجموعة من الشباب، تعلو وجوههم ملامح القلق والفضول، يتوسطهم رجل خمسيني، بابتسامة عريضة كانت أشبه بضوء خافت في هذا الجو المشحون. بادرني بالسؤال:

  • الأخ معلم؟
  • نعم.
  • أهلاً بك… مجموعة مدارس الأمل.

كان الرجل، المدير، يحمل ملامح القائد الذي يحاول طمأنة جنوده قبل المعركة. تبادلنا التحيات، وتناول نقاشنا سلاسل من الإرشادات والنصائح، منها ما فهمته ومنها ما تركته للقدر. وأخيرًا، رافقني بنفسه إلى “الخطافة”، وسلّمهم توصية شخصية لتوصيلي في اليوم التالي إلى مقر المدرسة.

التطلعات والحيرة

كانت هذه البداية الفعلية لمسيرتي التي امتدت 25 عامًا في تدريس أبناء هذا الوطن. بدأت يومها أفكر في مغزى الرحلة: هل كنت مجرد رقم في قائمة؟ أم أن لهذا المشوار الغريب هدفًا أعمق؟ الأسئلة كانت ثقيلة، لكنني تعلمت أن أحملها معي، كما حملت حقيبتي ودفاتري إلى تلك القرية التي أصبحت عالمي الجديد.

هكذا بدأ فصلي الأول في كتاب طويل، سطوره مكتوبة على إيقاع التحدي والشك، مع بصيص أمل لا يفارقني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى