سياسة

بين الحياد والمسؤولية: قراءة معمقة في مستقبل سوريا في ظل التدخلات الخارجية وتجارب عربية مشابهة

محمد صابر

لسنا هنا في مقام الدفاع عن بشار الأسد أو الهجوم عليه؛ فالقضية السورية تتجاوز شخص النظام لتصل إلى عمق الأزمة التي تعصف بالبلاد. مستقبل سوريا، اليوم، أشبه بسفينة بلا بوصلة في بحر متلاطم، تتقاذفها مصالح دولية وإقليمية متضاربة. ما يثير القلق ليس فقط حال سوريا في حاضرها، بل ما قد تؤول إليه مستقبلاً إذا لم تُستفد من دروس التاريخ القريب لدول عربية أخرى.

تونس، العراق، وليبيا تقدم أمثلة حية لدول مرت بتحولات جذرية كان الهدف المعلن فيها هو “التغيير نحو الأفضل”، لكن النتائج على الأرض غالباً ما جاءت بمزيج من الفوضى، والتشرذم السياسي، والاقتصادي، وحتى الاجتماعي.

في العراق، شكّل سقوط صدام حسين محطة تاريخية أُحيطت بالكثير من الأمل بتحول ديمقراطي، لكن ما تلا ذلك كان انهياراً مؤسساتياً شاملاً. نظام “الجوقة الاحتياطية” الذي خلف صدام، أي مجموعة القوى السياسية المتناحرة، انشغل في الصراعات الداخلية، فيما تبقى ثروات العراق تحت رحمة الأطراف الدولية. تصريحات الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترامب حول “الانقضاض” على الأموال العراقية المودعة في الولايات المتحدة ليست مجرد كلمات عابرة؛ بل تعكس نموذجاً لاستغلال الأزمات واستنزاف الموارد باسم “إعادة الإعمار”.

في ليبيا، سقط النظام معمرالقذافي، لكن الفضاء الذي تركه كان أكثر خطورة. تحول الصراع من مواجهة بين الشعب والنظام إلى اقتتال داخلي بين فصائل مسلحة مختلفة، فيما أصبحت البلاد ساحة مفتوحة لتدخلات القوى الأجنبية، مستنزفة بذلك الثروات النفطية والطبيعية التي كانت مفترض أن تكون ركيزة لبناء الدولة.

أما في تونس، فإن التجربة وإن كانت أقل عنفاً مقارنة بالعراق وليبيا، إلا أنها أظهرت انهيار الاقتصاد التونسي وتحديات الانتقال الديمقراطي والقدرة على إعادة بناء المؤسسات بشكل مستدام.

في السياقات التي تعيشها سوريا اليوم، تتجلى إحدى أبرز التحديات في مسألة الشرعية السياسية. الأطراف التي تتصارع على السلطة، سواء داخل سوريا أو في المنفى، غالباً ما تفتقر إلى قاعدة شعبية واسعة، وتعتمد بشكل رئيسي على الدعم الخارجي لتحقيق طموحاتها. هذا الطموح المفترى عليه يجعل من أي عملية انتقال سياسي في سوريا محفوفة بالمخاطر، إذ تنحرف الأولويات من خدمة مصالح الشعب السوري إلى تلبية أجندات الدول الداعمة

الثمن الإنساني الباهظ: الموتى والمشردون واللاجئون

لا يمكن الحديث عن الأزمة السورية دون التوقف عند الكلفة الإنسانية الهائلة التي تحملها الشعب السوري. عدد القتلى الذي تجاوز مئات الآلاف يمثل أكثر من مجرد أرقام؛ إنه يعكس مآسي أسر مفجوعة، وأطفال فقدوا آباءهم، وأمهات لم يتبق لهن سوى ذكريات موجعة. خلف كل رقم حكاية إنسانية مؤلمة تتجسد فيها معاناة الفقد والحرمان.

إلى جانب الموتى، هناك مئات الآلاف من الأسر التي شُرّدت عن منازلها بفعل الحرب، وأصبحت تبحث عن مأوى في الداخل والخارج. المشردون داخلياً يعيشون في ظروف مأساوية، تحت خيام أو في مبانٍ مدمرة، يفتقرون إلى أبسط مقومات الحياة. أما أولئك الذين اضطروا إلى الهجرة، فقد تحوّلوا إلى لاجئين أو متسولين، موزعين بين دول الجوار أو أوروبا، يعيشون حياة غير مستقرة، ويتحملون أعباء الغربة والفقر، بينما يواجه أطفالهم صعوبة في الوصول إلى التعليم أو خدمات صحية أساسية.

هذا النزيف الإنساني لم يقتصر فقط على الخسائر المادية، بل أصاب نسيج المجتمع السوري بالتمزق. الأسر التي هاجرت قد لا تعود، والأجيال التي نشأت في المخيمات قد تفقد ارتباطها بموطنها الأصلي، ما يهدد مستقبل الهوية الوطنية السورية.

في ظل هذه المأساة، يبقى السؤال: كيف يمكن إعادة ترميم هذا الواقع الإنساني المدمر؟ الإجابة لن تكون سهلة، لكنها تبدأ بوقف الحرب، ووضع حد لمعاناة الشعب السوري، والعمل على توفير الظروف الملائمة لعودة اللاجئين والمشردين إلى ديارهم، وإعادة بناء مجتمعاتهم على أسس من السلام والعدالة.

التدخل الخارجي ومعادلة السلطة

منذ اندلاع الأزمة السورية، بات واضحاً أن القوى الفاعلة على الأرض، سواء النظام أو المعارضة، لا تتحرك بمعزل عن الأجندات الإقليمية والدولية. إيران وروسيا تدعمان نظام الأسد لأهداف استراتيجية، بينما تدعم قوى أخرى مثل تركيا، دول الخليج، والولايات المتحدة فصائل معارضة تسعى للوصول إلى الحكم.

هذا التدخل خلق ديناميكية خطيرة: الأطراف السورية أصبحت تعتمد على الدعم الخارجي للحصول على الشرعية والقوة، بينما تسعى القوى الداعمة لتحقيق مصالحها الخاصة على حساب سيادة سوريا ووحدتها. النتيجة هي حالة من الانقسام الداخلي والتنازع على السلطة، حيث تتشكل الحكومات أو الفصائل بناءً على إملاءات الخارج وليس استناداً إلى تطلعات الشعب السوري.

القيادات المدعومة خارجياً: بين الشرعية والوصاية

القيادات السورية التي تعتمد على مباركة الأطراف الخارجية للوصول إلى مراكز الحكم تواجه معضلات رئيسية:

  1. غياب الشرعية الشعبية: ينظر الشعب السوري إلى هذه القيادات بعين الريبة، باعتبارها أدوات لتنفيذ مصالح القوى الأجنبية والحاقدة على دول الشرق الأوسط.
  2. الارتهان للوصاية: بمجرد وصولها إلى الحكم، تصبح هذه القيادات ملزمة بتنفيذ أجندات داعميها، مما يقوّض استقلالية القرار الوطني.

العبرة من تجارب عربية قريبة: العراق وليبيا نموذجاً

  • في العراق، أدى سقوط نظام صدام حسين بمساعدة الولايات المتحدة إلى انهيار مؤسسات الدولة، بينما انشغلت القيادات التي جاءت بدعم خارجي بالصراعات الطائفية والسياسية، في ظل استمرار الهيمنة الأميركية على موارد العراق وأصوله المودعة بالخارج، كما لوّح بذلك الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترامب.
  • في ليبيا، أسفر سقوط القذافي عن فراغ سياسي وأمني، وأصبحت البلاد ساحة لصراعات داخلية وإقليمية، حيث أخفقت الأطراف المدعومة دولياً في بناء نظام سياسي مستقر أو الحفاظ على وحدة البلاد

ماذا عن سوريا؟

إذا استمر النموذج الحالي، فإن سوريا مرشحة لتكرار السيناريوهات العراقية أو الليبية. الأطراف المدعومة خارجياً قد تصل إلى الحكم، لكنها ستواجه التحديات التالية:

  • انعدام الثقة الشعبية: الشعب السوري، المنهك من الحرب والتدخلات الخارجية، قد يرفض أي نظام يُنظر إليه كامتداد لقوى أجنبية.
  • استمرار التدخلات الأجنبية: سيبقى أي حكم قائم على الدعم الخارجي عرضة للضغوط والابتزاز، مما يضعف السيادة الوطنية.
  • تفكك الدولة: انعدام الوحدة الوطنية نتيجة الاعتماد على دعم أطراف خارجية ذات أجندات متضاربة قد يؤدي إلى تفكك الدولة أو إطالة أمد النزاع.

مستقبل سوريا: بين الدروس والعبر

في ظل هذه المعطيات، تبدو سوريا مهددة بتكرار هذه السيناريوهات. إذا استمرت الأطراف المتنازعة في الاعتماد على الدعم الخارجي، فإن البلاد ستبقى عرضة للانقسام والتفكك.

ما العمل؟

لحماية مستقبل سوريا، يجب التركيز على:

  • تقليص التدخلات الخارجية: استعادة السيادة الوطنية تبدأ بالحد من الرهان على الأطراف الخارجية.
  • إطلاق حوار وطني شامل: يجب أن تُبنى العملية السياسية على قاعدة تجمع كافة المكونات السورية دون إقصاء.
  • إعادة بناء الشرعية الوطنية: لا يمكن لأي طرف أن يحكم سوريا بفاعلية دون أن يكون مشروعه قائماً على تلبية تطلعات الشعب السوري، وليس على تنفيذ أجندات خارجية.

الخلاصة

تجارب العراق وليبيا تقدم دروساً واضحة حول مخاطر الاعتماد على الدعم الخارجي للوصول إلى الحكم. الأطراف السورية، إذا لم تتدارك خطورة هذه الديناميكية، قد تجد نفسها عالقة في دوامة لا تنتهي من النزاعات والوصاية الأجنبية. مستقبل سوريا، كما هو الحال الآن، لا يزال في مهب الريح، لكن الطريق نحو إعادة بناء الدولة يبدأ برؤية وطنية مستقلة تعكس إرادة شعبها وتسعى لتحقيق مصالحه بعيداً عن الحسابات الخارجية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى