
يوميات رجل تعليم: بين قاعات التعليم وأحلام الأطفال (الحلقة 2)
العربي ازعارة
مركز تكوين المعلمين: الرمزية وتجديد الروح
في خريف عام 1991، كان الزمان شاهداً على بداية فصل جديد من مسيرتي في عالم التعليم. تلك المرحلة لم تكن مجرد عمل أو مهنة، بل كانت حكاية أعمق تُكتب بحبر الأمل ومِداد التحديات. كانت البداية في مركز تكوين المعلمين، حيث لم يكن ارتداء الوزرة البيضاء وحمل المحفظة مجرد تقليد بسيط، بل رمزاً لاستعادة روح التعلم والانتماء بعد أن ظننا أننا قد تجاوزنا تلك المرحلة منذ سنوات. هناك، لم تكن قاعات التدريب مجرد غرف دراسية، بل مختبرات فكرية تجمع بين تقاليد التربية وملامح المستقبل.
محطة البداية: ولادة فكر جديد
حين وطأت قدماي المركز، كنت أعلم أن رحلتي ليست عادية. وسط الممرات، كان يعلو صوت النقاشات حول أحدث طرق التعليم، بينما تزاحمنا للحصول على نسخ من كُتبٍ تحمل عناوين واعدة: “فن إيصال الفكرة”، “القيم التربوية الحديثة”، “المعلم: قائد المستقبل”. في تلك اللحظات، شعرت أنني لست فقط أتعلم أدوات المهنة، بل أكتسب شغفًا جديدًا.
معلمي المركز كانوا من نوع خاص؛ يلقون دروسهم بعينين تشعّان حماسة، وكأنهم يخبروننا: “أنتم، أنتم من سيحمل الشعلة لاحقًا.” لم تكن مجرد علوم نتلقاها، بل كانت إرثًا نُلقّن كيفية حمله وصونه.
ترقب التخرج: رحلة نحو المجهول
في تلك الأيام، ونحن ندرس في المركز، كانت عقولنا مشغولة بما هو أبعد من قاعات الدرس والواجبات اليومية. كان بداخل كل واحد منا تساؤلٌ يختبئ خلف الابتسامات العابرة: أين ستلقي بنا رياح التخرج؟ وأين ستستقر رحلتنا القادمة؟ كنا نشبه سهامًا موضوعة في مقلاع كبير، وكل منا يتساءل في صمت عمّا ينتظره عند الإطلاق.
كنا نحاول تهدئة قلقنا بالكلمات البسيطة، نتبادل المزاح ونقول لبعضنا: ‘لا أحد يعلم أين سيرمي به المقلاع.’ لكنها كانت مزحة مغلفة بالخوف، فنحن نعلم أن الاختيار لم يكن بأيدينا. كانت هناك قرى ومدن وأماكن بعيدة مجهولة تنتظرنا، تحمل تحديات لم نكن نعرفها. وبين الأمل والخوف، كان في قلوبنا رغبة بأن يقودنا ذلك المقلاع إلى حيث نستطيع أن نصنع فرقًا ونترك أثرًا، حتى لو كنا لا ندرك شكل هذا الأثر بعد.
حياة جديدة في دالاس: انضباط وطموح
خلال تلك الفترة التي كنا نتابع فيها تكويننا داخل المركز، كنت أكتري رفقة مجموعة من الزملاء، من بينهم صديق حميم كان لي بمثابة الأخ، في حي شعبي يحمل اسم سيدي عبد الكريم ويُطلق عليه حي ‘دالاس’ بمدينة سطات. كانت بداية حياة جديدة لنا، حيث أصبحنا نعيش بنظام دقيق، وكأننا جنود في جيشٍ يتبعون قواعد صارمة. كنا نخرج من المنزل صباحًا، نتقاسم المسؤوليات والواجبات، كعناصر منضبطة، كل واحد منا يعرف دوره ويضع أمامه هدفًا. لم يكن هذا مجرد تدريب على التعليم فحسب، بل كان تدريبًا على الحياة بأسرها. وقد وصل الأمر إلى درجة أن حتى منحرفي الحي كانوا يحترموننا، ليس بسبب كوننا مجرد طلبة، بل لأننا أصبحنا رمزًا للجدية والانضباط، حيث كانت خطواتنا تحمل أملًا وطموحًا أكبر من مجرد تفاصيل الحياة اليومية.