يوميات رجل تعليم: “الامتحان الأول” (الحلقة 1)
العربي ازعارة
في كل واحد منا حكاية تستحق أن تُروى، وفي كل تجربة تعليمية تُخبئ الذكريات قصصًا من المعاناة والأمل، من المصاعب والانتصارات الصغيرة. هكذا يبدأ العربي ازعارة، مدير مدرسة ابتدائية في المحمدية، في نشر مذكراته التي تعكس نبض مهنة التعليم وما وراء الكواليس.
بداية الحكاية
كانت سنة 1991، والصيف على الأبواب. السماء زرقاء مشبعة بحرارة شمس الربيع، ويوم الأربعاء يجلب معه حركة السوق الأسبوعي في بنسليمان، حيث تعج الأزقة بالباعة والمشترين، والأصوات تختلط بروائح التوابل والمنتجات الطازجة. وسط هذه الأجواء، كنا ثلاثة شباب: أنا وعبد العزيز وعبد الجليل، نتجول بين الأزقة الضيقة، نحمل همومنا وآمالنا، ونتساءل عن الطريق الذي سيقودنا إلى المستقبل بعد أن اجتزنا للتو امتحانات الجامعة.
في لحظة عفوية، قطع عبد العزيز حبل أفكارنا المتشابكة قائلاً: “ماذا لو جربنا حظنا في ميدان التعليم؟”
لم نكن نملك خطة واضحة. التعليم لم يكن خيارًا براقًا، لكنه بدا لنا بوابة إلى حياة كريمة. تطوع عبد العزيز لحمل ملفاتنا إلى مركز تكوين المعلمين بسطات. عندما عاد من رحلته، كانت يده تحمل استدعاءات الاختبار، وكان قلبه يحمل شعورًا بالتحدي الذي ينتظرنا.
الرحلة إلى سطات
عند زوال شمس يوم جميل، استقللنا سيارة أجرة كبيرة متجهة نحو الدار البيضاء. توقفنا في كراج علال، حيث ركبنا حافلة مزدحمة باتجاه سطات. لم تكن الرحلة مريحة، لكن الحديث عن المستقبل، وتوقعاتنا للامتحان، جعلنا ننسى التعب.
عند وصولنا إلى سطات، بدأ التحدي الأول: أين سنقضي الليلة؟ جُلنا في المدينة، باحثين عن فندق صغير يناسب ميزانيتنا المتواضعة، لكن دون جدوى. بدأ القلق يتسلل إلينا. هل سنقضي الليلة في إحدى الحدائق العامة؟
“صدفة لا تُنسى”
وفي لحظة بدا فيها كل شيء ضائعًا، التقينا صدفة بأحد أبناء مدينتنا. كان يعمل في البريد بسطات، وحين علم بمشكلتنا، فتح لنا منزله بكل كرم. تناولنا معه عشاءً شهيًا، وحين غمرتنا نعمة النوم بعد يوم طويل، شعرنا وكأننا دخلنا إلى واحة أمان وسط صحراء من القلق.
الامتحان
في صباح اليوم التالي، استيقظنا على أصوات المدينة المبكرة. وصلنا إلى المركز قبل الساعة الثامنة صباحًا، يملؤنا مزيج من التوتر والطموح. كل واحد منا يعيد مراجعة أوراقه في رأسه، بينما يراقب الأجواء من حوله.
الامتحان كان مكثفًا، لكن في النهاية شعرنا أننا قدمنا أفضل ما لدينا. غادرنا المركز محملين بشعور غريب من الثقة والخوف.
خبر النجاح
مرت الأيام ببطء، حتى وصل الخبر المنتظر: نجحنا نحن الثلاثة! اجتمعنا للاحتفال البسيط في منزل عبد العزيز، الذي أعلن أنه قرر متابعة دراساته العليا بدلًا من الانضمام إلينا في ميدان التعليم.
النهاية والبداية
اليوم، عبد العزيز أستاذ جامعي في بنغازي، وعبد الجليل يعمل في التعليم. أما أنا، العربي ازعارة، فقد وجدت نفسي وسط عالم التدريس، أحمل مسؤولية أجيال جديدة. كانت تلك الرحلة بداية مسار مليء بالتحديات، لكنها علمتني أن اللحظات الصغيرة، والقرارات العفوية، قد تصنع حياة كاملة.