الانتهازيون في المغرب: بين النفاق الاجتماعي والأطماع الشخصية
دابا ماروك
الانتهازية: داء اجتماعي ينخر القيم ويهدد النسيج الوطني
في قلب المجتمعات الحديثة، حيث يطمح الأفراد إلى تحقيق ذاتهم وبناء مستقبلهم، تتسلل الانتهازية كظاهرة تهدد التوازن بين الطموح المشروع والممارسات الأخلاقية. الانتهازية ليست مجرد سلوك فردي، بل هي انعكاس لبيئة اجتماعية وسياسية واقتصادية تتيح لها النمو والتوسع. في السياق المغربي، أضحت الانتهازية أكثر من مجرد انحراف أخلاقي؛ إنها منظومة متشابكة تجد موطئ قدمها في كل زاوية من زوايا المجتمع، بداية من السياسة والنقابات وصولًا إلى القطاعات المهنية وحتى المجالات الثقافية والإعلامية.
وراء كل قناع يبتسم للفرص، يتوارى وجه يخفي نوايا لا علاقة لها بالمصلحة العامة. الانتهازية في جوهرها هي فن استغلال اللحظة لتحقيق مكاسب ذاتية، ولو على حساب قيم العدالة، النزاهة، والشفافية. إنها صورة معقدة تتشابك فيها العوامل الفردية والاجتماعية لتنتج سلوكًا لا يقف عند حد، ويمتد تأثيره ليعطل مسارات الإصلاح والتنمية في المجتمع.
الحديث عن الانتهازية في المغرب ليس مجرد رصد لظاهرة سلوكية؛ إنه تحليل لعلاقة القوة والنفوذ والمصلحة في مجتمع يسعى إلى التغيير، لكنه يجد نفسه أحيانًا أسيرًا لذهنية “الفرصة أولًا”، حيث تُختزل المبادئ في صفقات وتُستبدل الكفاءات بالمحسوبيات.
- الانتهازية في السياسة: الكواليس المظلمة
السياسة في المغرب، مثلها مثل بعض الدول، ليست محصنة من الانتهازيين. في المشهد السياسي، تجد أشخاصًا يقدمون أنفسهم كمنقذين، مدافعين عن الحقوق والحريات، بينما تكون تحركاتهم الحقيقية مدفوعة برغبة في الوصول إلى السلطة أو المناصب.
غالبًا ما يُلاحظ أن الانتهازيين يتقنون لعبة التلون السياسي، إذ ليس من الضروري أن ينتقلوا من حزب إلى آخر ليظهروا طبيعتهم. فبعضهم يظل متمسكًا بانتمائه الحزبي ظاهريًا، لكنه يغير جلده باستمرار، متنقلًا بين المصالح والتحالفات دون الالتزام بمبادئ واضحة. ومنهم من يتقن التظاهر بالمرونة والود، مظهرًا بشاشة زائفة، ومتقنًا فن النفاق لكسب تعاطف أو دعم كبار القوم. يعود هؤلاء لارتداء قناع حسن السيرة، موزعين ابتسامات ماكرة يمينًا ويسارًا، وكل ذلك في سبيل تحقيق مكاسب شخصية أو تعزيز نفوذهم، ولا يترددون في التطبيل بشكل مثير للسخرية.
إن هدفهم الوحيد هو البحث عن النفوذ أو الحصول على مناصب لا يستحقونها. هؤلاء “المنبطحون”، كما يُطلق عليهم أحيانًا، يعملون في الكواليس، حيث يركضون وراء مكاسبهم بأي وسيلة.
- الانتهازية النقابية: دفاع عن العمال أم مصالح شخصية؟
العمل النقابي، الذي يُفترض أن يكون معقلًا للدفاع عن حقوق العمال، لم يسلم بدوره من الانتهازيين. في العديد من الحالات، يتحول أشباه القادة النقابيين إلى أدوات لتحقيق مكاسب شخصية، مثل التفاوض للحصول على مناصب إدارية أو الاستفادة من امتيازات مادية.
ما يزيد الطين بلة أن هذه الانتهازية تسهم في تقويض الثقة في العمل النقابي، مما يؤدي إلى عزوف العمال عن الانخراط في النقابات، ويضعف بالتالي الحركات المطالبة بالتغيير.
- الانتهازية في القطاعات العمومية والخاصة: الوجهان المختلفان لعملة واحدة
في القطاع العمومي، تتجلى الانتهازية في مظاهر متعددة، مثل استغلال النفوذ للحصول على ترقيات غير مستحقة، أو التلاعب بالصفقات العمومية لتحقيق مكاسب مالية. من جهة أخرى، يبرز بعض المسؤولين الذين يدّعون العمل لصالح الوطن، بينما يُحولون الموارد العامة إلى جيوبهم الخاصة أو الخاصة بالمقربين منهم.
أما في القطاع الخاص، فإن الانتهازية تأخذ أشكالًا أخرى، مثل استغلال العمال بفرض ساعات عمل طويلة بأجور زهيدة، أو التلاعب بالقوانين لتجنب دفع الضرائب.
- الانتهازية الثقافية والإعلامية: من يدعون النبوة
الإعلام والثقافة، اللذان يُفترض أن يكونا وسيلتين لتنوير المجتمع، لم يسلما بدورهما من الانتهازية. تجد أشخاصًا يستغلون منابرهم الإعلامية أو الثقافية لتمرير أجندات شخصية أو مصالح ضيقة. هؤلاء يدّعون النبوة، ويظهرون أنفسهم كقادة رأي، بينما يعملون في الخفاء على تلميع صور أولياء نعمهم، وتعزيز مواقعهم أو خدمة مصالح الجهات التي تدعمهم.
- الآثار السلبية للانتهازية على المجتمع المغربي
الانتهازية ليست مجرد مشكلة أخلاقية، بل لها تأثيرات ملموسة على المجتمع:
- ضعف الثقة في المؤسسات: يؤدي انتشار الانتهازية إلى تآكل ثقة المواطنين في المؤسسات السياسية والإدارية والنقابية.
- غياب الكفاءة: حين تُمنح المناصب والمكاسب للأشخاص بناءً على انتهازيتهم، يصبح الكفء مهمشًا، مما يؤدي إلى تراجع الأداء في مختلف القطاعات.
- تكريس الفساد: الانتهازية غالبًا ما تكون وجهًا من وجوه الفساد، حيث يتم استغلال النفوذ لتحقيق مصالح شخصية على حساب الصالح العام.
- كيف يمكن مواجهة الانتهازية؟
- تعزيز قيم النزاهة والشفافية: يجب العمل على تعزيز ثقافة النزاهة في المؤسسات التعليمية والإعلامية.
- محاسبة الفاسدين: لا يمكن مواجهة الانتهازية دون وجود آليات صارمة لمحاسبة المسؤولين الذين يثبت تورطهم في ممارسات انتهازية.
- تقوية المجتمع المدني: يُعد المجتمع المدني ركيزة أساسية في مراقبة الانتهازيين وفضح ممارساتهم.
- الخاتمة: نحو مواجهة شاملة للانتهازية في المجتمع المغربي
- الانتهازية ليست -كما ذكرنا- مجرد مشكلة أخلاقية، بل هي تحدٍّ وجودي يهدد مسارات الإصلاح والتنمية في المغرب. إنها عائق أمام بناء مجتمع عادل ومتوازن يقوم على قيم النزاهة والشفافية وتكافؤ الفرص. فطالما استمرت هذه الظاهرة دون مواجهة صارمة، ستظل تداعياتها تلقي بظلالها على مختلف القطاعات، من السياسة إلى الاقتصاد، ومن العمل النقابي إلى الإعلام، بل وحتى في النسيج الاجتماعي اليومي.
- مواجهة الانتهازية تتطلب جهودًا متكاملة وشاملة لا تقتصر على مستوى الفرد فقط، بل تشمل النظام بأكمله. يجب على المؤسسات التعليمية أن تزرع في نفوس الأجيال القادمة قيم الأمانة والمسؤولية، مع تعزيز الوعي بأهمية الصالح العام على حساب المصالح الشخصية. كما أن الإعلام له دور مركزي في تسليط الضوء على هذه الممارسات، من خلال تحقيقات صحفية تكشف الفساد والصفقات المشبوهة.
- لا يمكن الحديث عن الحد من الانتهازية دون الحديث عن العدالة. إن تطبيق القوانين بصرامة على الجميع، بغض النظر عن مواقعهم أو نفوذهم، هو الوسيلة الوحيدة لإعادة الثقة في المؤسسات وضمان عدم التلاعب بالمصلحة العامة. علاوة على ذلك، فإن خلق بيئة اقتصادية وسياسية شفافة يُقلل من الفرص التي ينتهزها هؤلاء المتسلقون لتحقيق مصالحهم الشخصية.
- على الصعيد الثقافي والاجتماعي، يتطلب القضاء على الانتهازية إعادة بناء القيم التي تحكم العلاقات بين الأفراد. يجب أن يعي المجتمع أن النجاح الحقيقي لا يُقاس بالمكاسب السريعة وغير المستحقة، بل بما يقدمه الفرد لوطنه ومجتمعه.
- في نهاية المطاف، يظل التغيير الحقيقي مسؤولية جماعية. المجتمع المغربي يمتلك من الوعي والإرادة ما يمكنه من مواجهة هذا التحدي، لكن ذلك يتطلب تعاون الجميع، من مؤسسات الدولة إلى الأفراد. القضاء على الانتهازية ليس فقط معركة قانونية أو سياسية، بل هو معركة قيمية ترسم ملامح المستقبل الذي نسعى جميعًا لتحقيقه. إن التزامنا بهذا الطريق هو السبيل الوحيد لبناء مغرب قوي وعادل تتساوى فيه الحقوق والفرص، ويصبح فيه العطاء للوطن أهم من السعي وراء المكاسب الذاتية.