مجتمع

بين الجمال والعمل: دروس من بامبلونا إلى المغرب

م-ص

قبل سنوات عديدة، ولأول مرة، انطلقنا في رحلة إلى أوروبا، وبينما كنا نتأمل معالم مدينة بامبلونا الاسبانية وتراثها الثقافي الغني، المشهورة بمهرجان سان فيرمين، بدأ يومنا الأول فيها بمشهد لا يُنسى. في ذلك الصباح، وخلال تجوالنا في شوارعها الهادئة، لفت انتباهنا مشهد شابة اسبانية تعمل في شركة لتكنيس وجمع القمامة (النظافة). رغم أن هذا المشهد جزء عادي من الحياة اليومية للمدينة، إلا أنه بدا لنا حينها استثنائيًا.الجمال في أبسط صوره.

تلك الشابة، التي بدت منهمكة في عملها، كانت تتمتع بجمال طبيعي يشبه الجمال الملائكي. كان شعرها ينسدل بخفة تحت القبعة الرسمية، ووجهها يفيض بالبراءة والرقة رغم التعب الظاهر. وقفنا مذهولين، لا من تناقض العمل الشاق الذي تقوم به مع مظهرها البسيط فحسب، بل من حقيقة أن هذا الجمال الذي لم يمنعها من أداء مهام تعتبرها بعض المجتمعات عملًا متواضعًا.

بدأت الأفكار تدور في أذهاننا: كيف يمكن لهذا المشهد أن يحدث في أوروبا بينما يبدو نادرًا أو حتى مستحيلًا في مجتمعنا المغربي؟ تذكّرنا حينها أن المرأة المغربية، رغم شجاعتها وقدرتها على العمل في مجالات صعبة، نادرًا ما تُرى في مثل هذا القطاع، خاصة إذا كانت شابة أو تتمتع بجمال لافت.

نظرة على واقع المرأة المغربية

في المغرب، العاملات في مجال جمع القمامة غالبًا ما تفوق أعمارهن الثلاثين، بل إن نسبة الشابات في هذا القطاع ضئيلة جدًا. ويعود ذلك إلى عوامل عدة:

  • نظرة المجتمع: هناك تصور اجتماعي بأن العمل في هذا المجال “لا يليق” بالشابات، خاصة اللواتي يتمتعن بجمال أو ينتمين إلى أسر، حتى لو كانت متواضعة.
  • السعي نحو الأناقة والجمال: المرأة المغربية تبذل جهدًا كبيرًا للحفاظ على مظهرها وأناقتها، حتى في ظروف اقتصادية صعبة، مما يجعلها تميل إلى البحث عن وظائف “أقل صعوبة” أو أكثر احترامًا في أعين المجتمع.
  • الفرص الاقتصادية: بالرغم من التحديات، تميل الشابات المغربيات إلى العمل في قطاعات مثل التعليم، الحرف اليدوية، أو حتى في المنازل، حيث يمكنهن تحقيق دخل دون التعرض لانتقادات اجتماعية.

الدروس من المشهد

ما أدهشنا في بامبلونا هو طبيعة النظرة الأوروبية للعمل. لا يتم تقييم الأفراد بناءً على مظهرهم أو نوعية العمل الذي يقومون به، بل على أدائهم ومدى إسهامهم في تحسين المجتمع. هذه المرأة لم تكن ترى عملها كعمل “متواضع”، بل كجزء من مسؤوليتها المجتمعية.

أما في المغرب، فلا يزال مفهوم العمل يعاني من قيود اجتماعية تجعله مرتبطًا بالصورة النمطية. الشابات يُتوقع منهن الظهور بأفضل مظهر حتى في أكثر الظروف تحديًا، ما يضيف عبئًا إضافيًا عليهن ويحد من خياراتهن في سوق العمل.

ضرورة تغيير المفاهيم

إن الفرق الجوهري بين بامبلونا والمغرب في هذا السياق ليس اقتصاديًا فقط، بل ثقافيًا واجتماعيًا. نحن بحاجة إلى تعزيز ثقافة تحترم العمل في جميع أشكاله.

  • تكريم العاملات: ينبغي تكريم النساء العاملات في كافة القطاعات، بما في ذلك جمع القمامة، على مساهمتهن الفعالة في تحسين حياة الآخرين.
  • إعادة تعريف الجمال: يجب أن نعيد التفكير في ربط الجمال بالمظاهر فقط. الجمال يكمن أيضًا في الشجاعة، التفاني، والإخلاص في العمل.
  • تشجيع المساواة: دعم المرأة للعمل في أي قطاع تختاره، بغض النظر عن المظهر أو الظروف الاجتماعية، يعكس نضج المجتمع وقدرته على تحقيق العدالة.

خاتمة

المشهد البسيط لتلك المرأة في بامبلونا فتح أعيننا على مفهوم أعمق للجمال والعمل. قد يكون ما رأيناه درسًا من الحياة: أن العمل بكرامة هو أجمل ما يمكن أن يقدمه الإنسان لنفسه ولمجتمعه. ومن واجبنا أن نعمل على تغيير المفاهيم في مجتمعاتنا، بحيث تكون كل امرأة، بغض النظر عن عمرها أو مظهرها، قادرة على تحقيق ذاتها والعمل بما يليق بشجاعتها وإمكاناتها.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى