العنف المشروع وغير المشروع: أبعاد قانونية واجتماعية
من إعداد وإسهام: الأستاذ عبد العالي المصباحي/ المحامي العام بمحكمة النقض ورئيس رابطة قضاة المغرب
يستعرض هذا النص مفهوم العنف المشروع وغير المشروع، حيث يُعرّف العنف غير المشروع بأنه السلوك العدواني الذي يُستخدم لإلحاق الضرر بالآخرين أو الممتلكات، ويعكس خللاً في العلاقات الاجتماعية ويُعتبر تهديدًا للأمن. بالمقابل، يُعتبر العنف المشروع الأداة التي تستخدمها الدولة لضبط النظام والحفاظ على الأمن، ويستمد مشروعيته من الدستور والقوانين التي تمنح السلطات الحق في استخدام القوة عند الضرورة، مثل مكافحة الفوضى وحماية المواطنين. يتناول النص أيضًا العوامل الاجتماعية والنفسية التي تسهم في انتشار العنف غير المشروع، وكذلك دور المؤسسات القانونية والاجتماعية في مواجهة هذه الظاهرة وتعزيز ثقافة السلم والتسامح.
يستأنف الأستاذ عبد العالي المصباحي، المحامي العام بمحكمة النقض ورئيس رابطة قضاة المغرب، اليوم مقالة تتناول دور القضاء في تعزيز دولة الحق والقانون.
مفهوم العنف وتأطيره القانوني
العنف هو عدم الرفق، ويمثل الشدة والغلظة وسوء انقياد يؤدي إلى إلحاق الضرر. إنه الاستخدام الفعلي للقوة لتحقيق أذى أو استغلال، وهو سلوك يتسم بالعدوانية بهدف إخضاع الآخر ضمن إطار من علاقات القوة غير المتكافئة، مما يعكس خللًا وظيفيًا في توازن العلاقات الاجتماعية بين الأفراد. وقد يصح القول أن العنف كبركان خامد في الطبيعة البشرية للإنسان، يمكن أن يثور تحت تأثير ظروف معينة.
حدد الفيلسوف توماس هوبز ثلاثة مصادر رئيسية للعنف، وهي:
- التنافس: الدافع إلى الاستحواذ والسيطرة.
- الحذر: الحاجة إلى حماية النفس من التهديدات المحتملة.
- الكبرياء: الرغبة في تعزيز الذات وتأكيد المكانة.
يتخذ العنف أشكالًا متعددة، فقد يكون فعلًا إيجابيًا أو امتناعًا سلبيًا، ماديًا أو معنويًا، لفظيًا أو حسيًا، عمديًا أو ناتجًا عن خطأ، حسب الظروف والأحداث التي يتجلى فيها.
وبشكل عام، يمكن اعتبار كل جريمة نوعًا من أنواع العنف، موجهًا ضد فرد أو مجموعة أو جهة أو شيء معين. وتشمل أنواع العنف المتعددة على سبيل المثال العنف ضد الأشخاص، العنف ضد الممتلكات، العنف ضد الملكية والحيازة، العنف ضد المنفعة العامة، والعنف الممارس ضد الموظفين أو المؤسسات.
في إطار القانون المغربي، ينص المشرع على اعتبار العمل إرهابيًا إذا كان العنف هو وسيلته، وكانت نتيجته تهديدًا خطيرًا للنظام العام.
مفهوم العنف المشروع
إذا كان المشرّع قد اعتبر أن العنف كما أوضحناه سابقًا هو فعل غير مشروع، فما هو العنف المشروع؟
العنف المشروع هو الأداة الحصرية التي تمتلكها الدولة لتنفيذ مبدأ “مصلحة الدولة” ولضبط سلوك الأفراد ومنع حالة الفوضى. هذا العنف يكتسب صفة “المشروعية” من مصادر قانونية متعددة، منها نظرية العقد الاجتماعي، والدستور، والقوانين التي تنبثق من الدستور.
منح المشرّع لكل فرد الحق في الدفاع عن نفسه والرد على أي اعتداء ضمن إطار الدفاع الشرعي، واعتبر هذا الفعل غير مجرَّم. وعلى هذا النحو، منح المشرّع الدولة الحق في ممارسة العنف المشروع ردًا على الفوضى، ومن أجل الحفاظ على النظام، والمؤسسات، وكيان الدولة.
أمثلة على العنف المشروع الذي يحق للدولة ممارسته تشمل:
- حالة الحرب: الدفاع عن الوطن والمواطنين.
- تفريق المظاهرات غير المرخصة: عندما تشكل خطرًا على النظام العام.
- مكافحة العصابات الإجرامية المنظمة: حفظ الأمن والاستقرار.
- زجر الجريمة وتطبيق العقوبات: تنفيذ العقوبات والأحكام الصادرة عن المحاكم.
- نزع الملكية من أجل المصلحة العامة: تحقيق المشاريع التي تخدم المجتمع ككل.
وفي المقابل، إذا تم ارتكاب العنف من طرف ممثلي الدولة بشكل غير مشروع، فإن العقوبة تكون مشددة، حيث ينص الفصل 231 من القانون الجنائي المغربي وما يليه على مضاعفة العقوبة في هذه الحالات، بما يفوق العقوبة المقررة في الظروف العادية.
تنامي ظاهرة الاقتصاص الذاتي والتمرد على رموز الأمن
تعد ظاهرة الاقتصاص الذاتي، حيث يلجأ الأفراد إلى أخذ العدالة بأيديهم والتمرد على رموز الأمن، من الظواهر الاجتماعية المتزايدة التي تتطلب النظر في أسبابها المتعددة. وفيما يلي بعض العوامل التي يمكن أن تسهم في تنامي هذه الظاهرة:
- انتقال المجتمع من ضوابط العرف إلى ضوابط القانون
شهد المجتمع المغربي تحولًا من العيش تحت ضوابط العرف والعادة والتحكيم القبلي أو الأسري إلى إطار قانوني يفضل اللجوء إلى القضاء لفصل النزاعات. هذا التغيير أدى إلى صعوبات في التأقلم مع مفهوم العدالة القانونية بدلاً من الاقتصاص الفردي. - التركيبة النفسية لبعض أفراد المجتمع
تتسم سيكولوجية المواطن المغربي، خاصة الرجل، بسمات مثل الأنفة والكبرياء والشجاعة، مما يزيد من احتمالية انفعاله السريع وردود فعله القوية، خاصة في حالات الشعور بالظلم أو الاعتداء. - ضعف التواجد الأمني في المناطق السكنية
يعد عدم تواجد أمني ملموس ضمن الأحياء والمناطق السكنية من الأسباب التي تضعف الثقة في قدرة مؤسسة الأمن العمومي على احتواء التوترات ومنع الاعتداءات. ويتطلب الأمر تكثيف الحضور الأمني الفعلي، سواء من خلال البنى التحتية أو الأفراد، لتعزيز شعور الأمان. - التأخر في تحقيق العدالة
إن بطء استجابة السلطات في زجر المعتدي أو رد الاعتبار للضحية يخلق شعورًا بعدم الرضا والاطمئنان لدى الضحية والمتتبعين، ويشجع على اللجوء إلى الاقتصاص الذاتي بوصفه حلًّا أسرع من النظام القانوني. - غياب الثقافة القانونية
هناك نقص في الوعي القانوني وإدراك العواقب العقابية للأفعال التي تشكل جرائم قانونية، مما يؤدي إلى انتشار الاقتصاص الذاتي في ظل ضعف المعرفة بالأطر القانونية. - دور الأسرة في التربية
التخلي التدريجي لبعض الأسر عن دورها الأساسي في التربية، وترك هذا الدور للشارع أو المدرسة، يؤدي إلى ضعف الانضباط لدى الأفراد وزيادة التوجه إلى العنف والتمرد. - غياب سياسة جنائية فعّالة
عدم وجود استراتيجية جنائية متواصلة تركز على مكافحة الانحراف قبل وقوع الجريمة يسهم في تفاقم التمرد والاقتصاص الذاتي، حيث تتطلب الوقاية من الجريمة نهجًا شاملاً لتأطير المجتمع.
يمكن القول أن علاج ظاهرة الاقتصاص الذاتي يتطلب نهجًا شاملاً، يتضمن تعزيز الوعي القانوني، وتكثيف التواجد الأمني، والعمل على تنفيذ العدالة بسرعة وفعالية، مع تفعيل دور الأسرة في التربية وتعزيز السياسات الوقائية التي تهدف إلى معالجة أسباب الانحراف قبل وقوعه.
دور الدولة في انتشار ظاهرة الاقتصاص الذاتي
نعم، يمكن القول أن الدولة، عبر مؤسساتها المختلفة، تتحمل مسؤولية استتباب الأمن الاجتماعي، وذلك من خلال وضع سياسة جنائية استباقية تهدف إلى القضاء على الجريمة ومعالجة الانحراف عبر فهم مسببات الظاهرة وابتكار حلول جذرية تواكب التطورات الاجتماعية لمكافحة هذه الآفة.
- وضع تشريعات تعكس واقع المجتمع
ينبغي أن تتيح الدولة مشاركة شرائح متعددة من المجتمع في صياغة القوانين، بما يشمل خبراء نفسيين، واجتماعيين، وسوسيولوجيين، إذ يمكنهم تحليل الدوافع والمسببات التي تؤدي إلى الظواهر الإجرامية. على سبيل المثال، حين سنّ المشرّع قوانين لزجر شغب الملاعب، لم يعط اهتمامًا كافيًا لوضع القاصرين، على الرغم من أن كثيرًا من الجرائم التي تحدث في الملاعب ترتكب من طرف قاصرين، مما يعكس ضرورة أن تكون التشريعات أكثر شمولًا. - التكوين الخاص لرجال الأمن للتعامل مع الحالات الحرجة
يتطلب الأمر إعطاء رجال الأمن تدريبًا خاصًا على كيفية التعامل مع المواقف الحرجة، بما يحقق التوازن بين حماية النظام واحترام حقوق الأفراد. إذ ينبغي لرجل الأمن أن يكون قادرًا على الدفاع عن نفسه وعن الرمز الرسمي الذي يمثله (زيه) بما يحقق الردع ويمنع تصاعد العنف، مع الالتزام بعدم التجاوز القانوني في التعامل مع المواطنين.
إن دور الدولة يتطلب تعاونًا وثيقًا بين الأجهزة الأمنية، ومؤسسات المجتمع المدني، وخبراء علم النفس والاجتماع، لصياغة سياسات وقوانين تتسم بالشمولية وتضمن تطبيق العدالة بشكل متوازن، مما يعزز الثقة بالنظام ويقلل من لجوء الأفراد إلى الاقتصاص الذاتي.
دور النيابة العامة في الحد من ظاهرة الاقتصاص الذاتي والتمرد على القانون
للنيابة العامة دور محوري في مكافحة ظاهرة الاقتصاص الذاتي، عبر تعزيز سيادة القانون وتطبيقه بفعالية في المجتمع. وفيما يلي بعض المقترحات لتفعيل هذا الدور:
- التخصص وتدريب القضاة
يتطلب تعزيز دور النيابة العامة في الحد من الجريمة الإيمان بمبدأ التخصص، وذلك بتعيين قضاة متمرسين ذوي خبرة في مجال عمل النيابة العامة، بالإضافة إلى تدريبهم على أساليب التحري والبحث في مسرح الجريمة لضمان جمع الأدلة بشكل احترافي. - توسيع دور النيابة العامة ليشمل البحث في أسباب الجريمة
ينبغي على النيابة العامة الانتقال من دورها التقليدي المقتصر على تلقي المحاضر والتقارير إلى الانخراط الفعلي في دراسة أسباب تفاقم الجريمة، والعمل على الوقاية منها بشكل استباقي. - الانتقال من الدور الزجري إلى الدور الوقائي
ينبغي للنيابة العامة أن تتبنى دورًا وقائيًا، وذلك من خلال مراقبة أداء الشرطة الإدارية، والمجالس الجماعية، والجهات المكلفة بالوقاية وحماية المواطنين، لضمان تطبيق القانون بشكل صحيح وفعال. - تحريك الدعوى العامة في جرائم محددة
ينبغي رفع القيود التي تُلزم النيابة العامة بانتظار تقديم شكوى من صاحب الحق في بعض الجرائم، وتوسيع صلاحياتها لمراقبة مدى احترام القانون في شتى المجالات. - تمثيل النيابة العامة في المقاطعات الأمنية
يتطلب دور النيابة العامة دعم تمثيلها في المقاطعات الأمنية لضمان توجيه الشكايات في الاتجاه القانوني الصحيح وتفادي العيوب الشكلية، مع توفير الوسائل اللوجستية والمادية لتسهيل أداء مهامها الميدانية بكفاءة. - تدريب ضباط الشرطة القضائية
يمكن للنيابة العامة تنظيم دورات تدريبية لضباط الشرطة القضائية لتعريفهم بأحدث القوانين وتوحيد طرق العمل، مما يساهم في ضبط الجرائم بشكل أكثر احترافية ويحد من الفوضى. - رعاية الأحداث الجانحين بعيدًا عن المحاكم
تعيين ممثلين عن النيابة العامة في مراكز الحماية والتهذيب لرعاية الأحداث الجانحين وإبعادهم عن بيئة المحاكم يسهم في تطبيق التدابير الإصلاحية المطلوبة وتقويم سلوكهم. - إصدار قوانين تنظيمية للتنسيق بين الأجهزة القضائية
يعد إصدار قوانين واضحة تؤسس للعلاقة بين النيابة العامة والشرطة القضائية والعلمية والتقنية وقاضي التحقيق أمرًا ضروريًا، حيث يساعد في تنسيق الجهود وتحديد المسؤوليات لضمان فاعلية الإجراءات القانونية. - الإشراف على مراكز التشخيص القضائي
ينبغي للنيابة العامة الإشراف الفعلي على مراكز التشخيص القضائي، بما فيها مصلحة البصمات والبطاقة الوطنية وتحليل الحمض النووي، مما يسهم في رفع جودة الأدلة وضبط المجرمين بدقة. - حماية الشهود والمبلغين عن الجرائم
يجب أن تركز النيابة العامة على حماية الطرف الضعيف في الدعوى، خاصة الشهود والمبلغين، لضمان أمنهم وسلامتهم من أي أعمال انتقامية محتملة، مما يعزز ثقة المواطنين في النظام العدلي ويشجعهم على الإبلاغ عن الجرائم دون خوف.
إن دور النيابة العامة في تفعيل هذه الإجراءات والالتزام بها يمكن أن يسهم بشكل كبير في القضاء على ظاهرة الاقتصاص الذاتي وتعزيز سلطة القانون.
مقترحات لتعزيز الأمن العام واحتواء ظاهرة الاقتصاص الذاتي
- إعداد ميثاق لأخلاقيات المواطنة وأدب التعامل المدني
صياغة ميثاق أخلاقي يرسخ أسس المواطنة ويعزز من ثقافة التحضر والالتزام بقيم الشارع العام وأخلاقيات المدنية، انطلاقًا من ثوابتنا الثقافية والدينية، بما يضمن توجيه سلوك الأفراد تجاه التعايش السلمي والاحترام المتبادل. - نشر الثقافة القانونية بين جميع فئات المجتمع منذ الصغر
إشراك المؤسسات الدستورية والتعليمية في نشر الوعي القانوني وتثقيف الناشئة بأساسيات القانون، مما يسهم في بناء أجيال واعية بالحقوق والواجبات، ومدركة للعواقب القانونية للسلوكيات المنحرفة. - تعزيز الحضور الأمني في الشارع العام
يتطلب الشارع العام حضورًا أمنيًا دائمًا، يلعب دورًا مزدوجًا في توفير الأمان (ترغيب) وردع كل ما يهدد النظام العام (ترهيب)، حيث يعزز تواجد رجال الأمن في الشوارع الشعور بالاطمئنان لدى المواطنين ويشكل جدارًا واقيًا ضد الجرائم المحتملة. - تحديث الترسانة القانونية لمواكبة تطور الجريمة
ينبغي تطوير القوانين الجنائية باستمرار لمواكبة التطورات السريعة في أنماط الجريمة الحديثة، مثل الجرائم الإلكترونية والعنف المنظم، لضمان وجود آليات قانونية فعالة لمكافحة هذه الظواهر. - وضع سياسة جنائية استباقية لمعالجة مسببات الجريمة
تطوير سياسة جنائية تركز على الوقاية وتحديد الأسباب الاجتماعية والنفسية للجريمة والانحراف، وتكثيف الجهود لمنعها قبل وقوعها، من خلال إشراك الباحثين والمتخصصين في علم النفس وعلم الاجتماع. - دور الإعلام في التوعية بدلاً من الإثارة
توجيه الإعلام نحو تقديم نصائح توعوية تسهم في تثقيف المواطن بمخاطر الجريمة وعواقبها القانونية، مع تغطية الجريمة بشكل يتجنب الإثارة ويحرص على تعزيز القيم التربوية والتعليمية، مع تسليط الضوء على العقوبات كرسالة رادعة. - تشديد العقوبات على جرائم العنف التي تهدد حياة الأشخاص وسلامتهم
ضرورة مراجعة العقوبات المتعلقة بجرائم العنف الجسدي والنفسي، ورفع مستوى العقوبة بما يتناسب مع خطورة هذه الجرائم، التي تؤثر على الحق الدستوري للفرد في الأمن والحياة، طبقًا للفصول 20، 21، و22 من الدستور.
إن معالجة ظاهرة الاقتصاص الذاتي والتمرد على النظام الأمني تتطلب مقاربة شاملة ومتعددة الأبعاد، حيث يتحمل المجتمع والدولة على حد سواء مسؤولية تهيئة بيئة آمنة ومستقرة. فالمؤسسات الأمنية تحتاج إلى الحضور القوي والمستدام، بينما ينبغي على القانون أن يواكب تطور الجريمة بتحديثات مستمرة في النصوص وتكثيف جهود الوقاية والتوعية منذ المراحل المبكرة من حياة الأفراد. إضافة إلى ذلك، يلعب الإعلام دورًا حيويًا في التأثير على المجتمع ويجب أن يُوظّف لدعم الوعي المدني والقانوني، بعيدًا عن الإثارة غير البناءة. بالمحصلة، إن تعزيز الأخلاقيات العامة، مع دعم العدالة السريعة والفعالة، هو السبيل لبناء مجتمع يحترم القانون ويتجنب العنف كحل بديل.