
حياة بين الواجب والتضحية: الفرد المسؤول في الأسرة المغربية بين عبء الواجبات وتجاهل الذات
دابا ماروك
في ظل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الصعبة التي تعيشها العديد من الأسر المغربية، يتجلى نموذج مُرهق يظهر بوضوح في أحياء شعبية، حيث يكون فرد واحد فقط هو المسؤول عن جرّ حمل الأسرة بأكملها. هذا الشخص غالبًا ما يتحمل مسؤوليات ثقيلة تفرضها الحياة اليومية على عاتقه، خاصة عندما يكون دخل الأسرة ضئيلاً أو يعتمدون على معاش الأب الذي بالكاد يكفي لتغطية نفقات بسيطة. معاش الأب، رغم كونه جزءاً من النظام الاجتماعي، يتضح أنه في الكثير من الأحيان يتحول إلى مبلغ رمزي لا يمكن الاعتماد عليه بشكل كامل، ما يجعل المسؤولية الكبرى تقع على عاتق أحد الأبناء.
هذا النموذج الذي عايشه الكثيرون من الأسر المغربية يمثل الشخص الذي يصبح في موقع المسؤول الوحيد. يتحمل هذا الفرد تكاليف الأكل، الملبس، التطبيب، وأي احتياجات أخرى يمكن أن تطرأ على الحياة اليومية. إنه دور مُنهك يتم تأديته في صمت وكثير من الأحيان دون شكر، حيث يتحول هذا الشخص إلى ما يشبه “الشباك البنكي” للعائلة، مجرد مصدر مستمر للحصول على المال.
في نفس الأحياء الشعبية، نجد نماذج أخرى حيث تسعى الأسرة بأكملها للتعاون في مواجهة صعوبات الحياة. الفتيات قد يعملن في المصانع أو المنازل، بينما يتولى الذكور مهناً يدوية كالحرف أو التجارة المتنقلة. هنا تظهر الأسرة كخلية عمل، حيث الجميع يساهم، ولو بالقليل، في سد حاجات الحياة اليومية. هذه التوازنات قد تُبنى على التضحية المشتركة والمشاركة، ولكن في بعض الحالات يبقى أحد أفراد الأسرة هو “العمود الفقري” الذي يتحمل النسبة الأكبر من العبء.
ومع مرور الزمن، عندما يصل هذا الشخص إلى سنّ الزواج، يجد نفسه أمام موقف معقد. قد يشعر بالرغبة في الاستقرار وبناء حياة شخصية خاصة، ولكن واقع المسؤوليات يجبره على تأجيل تلك الخطوة. هنا يتعرض لضغوط مزدوجة: من جهة، يجد معارضة أو عدم تفهم من العنصر النسوي المقرب منه في العائلة، حيث يرون فيه ضماناً لتأمين الحياة الأسرية واستمرار تدفق المساعدة المالية. من جهة أخرى، هو نفسه قد يكون قد تكيّف مع دوره كمسؤول دائم ونسى أو أجّل احتياجاته الشخصية، مثل الزواج وتكوين أسرة خاصة به.
في هذا السياق، نرى أن هذا الفرد يتحول إلى شخص “آلي” في عيون أسرته، مجرد مصدر للمال والخدمات دون الاهتمام بمشاعره واحتياجاته الشخصية. قد يصل الأمر إلى أن يعاني من الإرهاق الجسدي والنفسي دون أن يشعر بذلك، مدفوعاً بالواجب والضمير الذي يدفعه للاستمرار. في الوقت الذي يتطلب فيه الأمر التفهم والدعم، يجد نفسه مُحاصرًا بأدوار اجتماعية قاسية ومتجذرة، حيث يُنكر حقه في التفكير في نفسه أو في بناء مستقبله الشخصي.
في نهاية المطاف، يصل الشخص الذي يحمل على عاتقه مسؤولية دعم الأسرة إلى مرحلة فارقة في حياته، حيث يجد نفسه أمام خيار صعب ومصيري: الاستمرار في دوره كالداعم الأساسي دون التفكير في مستقبله الشخصي، أو اتخاذ قرار بالاهتمام بحياته الخاصة، بما في ذلك التفكير في الزواج وتكوين أسرة. هذه النقطة الحرجة قد تؤدي إلى صراع داخلي وخارجي على حد سواء.
بالنسبة للمحيط العائلي، يُنظر إلى هذا التحول على أنه خروج عن “العُرف العائلي” أو حتى نوع من العقوق. الأسرة التي اعتادت الاعتماد الكلي على هذا الفرد تشعر بالخطر عند تفكيره في الزواج، إذ يرون أن استقلاله الشخصي سيهدد استمرارية الدعم المالي والعملي الذي اعتادوا عليه. في هذه الحالة، يبدأ الضغط الأسري، وخاصة من العنصر النسائي المقرب (مثل الأم أو الأخوات)، لإبقاء هذا الشخص في دوره، وعدم تركه يمضي في سبيل بناء حياة جديدة. هنا، يُنظر إلى رغبته في الزواج وكأنها “خيانة” لمسؤولياته، مما قد يولد اتهامات بالعقوق وعدم الوفاء.
الأمر الأكثر إشكالية هو أن الشخص ذاته قد يعيش هذا الصراع النفسي. فبعد سنوات من التضحية والاعتماد عليه، قد يشعر بالذنب حيال فكرة ترك أسرته أو تقليص دعمه لها. في عقله، قد يتردد السؤال: “هل أفكر في نفسي على حساب من أعولهم؟”. هذا التردد قد يقوده إلى اتخاذ قرارات تتعلق باستمرارية التضحية، رغم أنه في قرارة نفسه يشعر بالاستنزاف، أو قد يدفعه إلى تأجيل الزواج لسنوات طويلة حتى يفوت الأوان.
في بعض الحالات، وعندما يقرر الشخص التمرد على هذا الدور الضاغط، قد يتهمه البعض بالعقوق، ويصبح “العمود الفقري” للأسرة رجلاً عاقاً في نظر أفراد عائلته. هذا الوصف يكون قاسياً وغير عادل، لأن الشخص لم يتخل عن مسؤولياته بسهولة أو بدافع الأنانية، بل نتيجة لرغبته الطبيعية في بناء حياة مستقلة وتوفير مستقبل لنفسه. ومع ذلك، فإن الضغوط الاجتماعية المتجذرة تجعل منه ضحية لإحساس دائم بالذنب، كما لو أن سعيه نحو الزواج وتأسيس أسرة يعد هروباً من مسؤوليته الأصلية.
هذا الصراع الداخلي والخارجي يعكس تراجيديا اجتماعية يعيشها العديد من الأفراد في المجتمع المغربي، حيث يصبح “المُخلص” للعائلة هو أيضاً الشخص المُدان إذا قرر الابتعاد ولو قليلاً.
في نهاية المطاف، وحين يقرر “سائق القطار” الزواج، يتصاعد الصراع إلى مستوى جديد. فبالرغم من أن قراره يمثل حقاً طبيعياً في بناء حياة مستقلة، إلا أن الأسرة قد تنظر إلى زوجته الجديدة على أنها عدوة لذوذة، تمثل تهديداً مباشراً لمصالحهم ودورهم التقليدي. هذا الشعور بالعداء لا يزول حتى لو جلبها الزوج من أبعد مكان، حتى لو كانت “من المريخ”. تظل الزوجة في أعينهم مُنافسة على الدعم والرعاية التي طالما اعتبروها حقاً حصرياً للأسرة، ما يفتح باباً لمزيد من التوترات والصراعات التي تضيف عبئاً جديداً على كاهل الشخص الذي كان يوماً “العمود الفقري” للأسرة.
أخيرا، يبقى التوازن بين الواجبات الأسرية وحقوق الفرد الشخصية أحد أبرز التحديات التي تواجه الأسر في ظل الظروف الاجتماعية الصعبة.